وطن الشموس-محمد مباركي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

وطن الشموس

  محمد مباركي    

تحولت الظلمة في داخلي كسرب من الغربان تحلق تائهة بلا أوكار ، تنعق بأصوات كريهة ، تتلذذ
بالإساءة إلى نفس هاربة من وطن الشموس الحارة ،
 إذ يمارس الليل والنهار لعبة التناوب في هدوء الحكماء ،
 يرحل النهار ململما أنواره في هدوء،ليبتلعه الأفق البعيد  تاركا الكون لليل مزهو بالحلكة
يزرعها على الربوع . أما هنا ، و هنا غير الوطن ، ومنذ أن وطأت قدمي هذه الأرض المغروسة بالحقد ،  يخنس النهار ذليلا أمام جبروت الليل ، و  تتقلب الطقوس تجاري قوانين اللعبة التي تمارسها الكتل الهوائية الآتية من المحيط ، فتغضب و تفرغ أحشاءها زخات تزيد من جنون الجداول و الأنهار المعاندة للموج عند المصبات ، و إذا هدأت تتحول إلى رذاذ خفيف تتلاعب به الرياح  في كل الاتجاهات ، تحوله إلى أسواط  مفرقعة بالجنون .
أراقب هذا و ذاك من وراء زجاج  نوافذ شقتي المعلقة في الطابق العاشر في ضاحية مدينة الجن ، فأحجم عن الخروج إلى شوارع تناغمت مع ظلمة لا نهاية لها ،  إذ تحاول الأضواء الساطعة ، عبثا ، تبديد الظلمة ، و حتى و إن استطاعت  في الخارج تبقى الظلمة في دواخلي  كتمثال من الحجر الصلد.
مللت العمل و استكنت متقوقعا على ذاتي. بالأمس كان للعمل معناه مع رفيقتي زوجتي،جئت بها من وطن الشموس في إطار التجمع العائلي ، جاءت تلبس ملاءة سوداء تغطيها من الرأس حتى القدمين ، انبهرت بالوطن الجديد إلى درجة الجنون ، فجاريتها في الانبهار كطفل أبله ، لكنها خرجت و لم تعد ، راقبتها من بعيد في محطة " المترو " ، كيف عانقت غجريا في شوق ، و غاصا في زحمة الركاب ، و اختفيا ، و من حينها لم أر لهما ظلا .و تذكرت " بن سوسان " كيف ترجم واقعة مماثلة ، مع صديقته الاسبانية المتمردة في " اقصيدة " " أنا غشيم  ما زلت غري " و انتقم لكبريائه بمعالجة الجسد النافر بمدية حادة 
 و رصاصتين أشفى بهما انتماءه لوطن الشموس.
تمنيت أن أطير إلى ما وراء الدائرتين القطبيتين، و أعيش نهارا يطول سنة كاملة ،لأنجو من الظلمة
و نعيق الغربان و سوداوية الانتقام ،و أتخلص من مسدسي تحت الحزام يرتعد شوقا للانفجار ،
 لكن نفسي راودتني على العودة إلى وطن الشموس ، فجفلت روحي ، و تساءلت لماذا أعود ؟ أعود بالا شيء ؟ و حتى الذين سافرت من أجلهم ، تراهم قد ماتوا أو رحلوا إلى حيث لا أدري . انقطعت الأخبار
 و معها خبت نيران الشوق و فكرة العودة أصلا .
عملت المبهورة بالوطن المكشوف كل ما تملك من مخزون الكيد الذي حملته معها ، قالت لي يوما " هذا وطننا و أنا وحدي أهلك ، هل فهمت ؟ " ، فأحنيت رأسي  بالاجاب.
وجدت رسائل الأهل ممزقة في القمامة ، رسائل كانت تنهال علي لما أبطئ في الرد . كتبت لهم ، يوما ،رسالة بالحبر الأحمر أنعي فيها نفسي ، فكفت الرسائل عن الورود ، و انقطع الوصل إلا من الأحلام ، يأتيني  الأهل فيها يضحكون في حبور الأطفال ، لا أدري إن كانوا يضحكون معي أو يضحكون مني ،
يحملون قرب الماء يرشون وجهي لأستفيق ، فأستحيي أن أستفيق ، و أقول لهم
" خلوا عني ، لقد ولدتم كتلة جليدية  من الجبن ، فلا تسألوا عني بربكم "
 بهذا خاطبتهم في الحلم ، فانقطعوا عني .
****************************************************************
نغصت المفتونة حياتنا بالمشاحنات و الشجار اليومي ، ملوحة بوطن القانون و الحرية الشخصية ،
 و اتهمت فحولتي لتتركني و تذهب ذات صباح رفقة الغجري .
كنت أعتقد أن كل نبضات الرجولة قد خابت في دواخلي ، لكنني أحسست بها تتدفق مع ثورة الدم في العروق في مخاض فكرة مجنونة هي الرغبة في القتل ، فتمثلت وقائع أغنية " بن سوسان " و لازمتها المتكررة ، و بحثت عن المفتونة في كل مكان توقعت أن أجدها فيه ، وحيدة أو رفقة الغجري ،بحثت في محطات المترو ، و محطات السكك الحديدية ، و المطاعم و الحانات ، و كدت أن أخطئ  في حق سيدة
بدت لي من بعيد كأنها هي ، هرولت اتجاهها و سبابتي ترتعش على الزاد و الرصاصة الأولى في بيت
النار ، لكنها لم تكن هي ، ابتلعتها المدينة العظيمة كحفنة رمل اندلقت في الكون الفسيح . 
فتأججت الرغبة مع الظلمة ، مع زخات المطر و الرعود و الطقوس المتقلبة ، لتخبو شيئا فشيئا مع العجز الذي عطل جسمي المنهك بالأمراض . سقطت في محطة المترو و تلقفتني سيارة إسعاف  و مسدسي
يربض تحت الحزام برصاصاته التسع ، أتحسسه و أنا أغالب الغيبوبة بمحاولاتي الميئوسة لأستفيق،
كشف الأطباء  عن جسد مثخن بطابور من العلل ،كيف تحلقت دائريا تنهشني ككلاب برية جائعة ،
كان أولها السكري و آخرها الأرق ، لم تنفع الوصافات الطبية ، و عاد الأطباء في نظري كذبة .
 أصبحت في شقتي نسيا منسيا ، إلا من طرقات بواب العمارة اليوناني العجوز ، يتفقدني خشية أن تفيض الروح من الجسد ، فيتعفن و يؤذي سكان العمارة من الغجر و العرب و الأفارقة .



 
  محمد مباركي (المغرب) (2009-12-03)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

وطن الشموس-محمد مباركي (المغرب)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia